كنت تلميذة في السنة الأولي الثانوية جذابة وطيبة واجتماعية, حين رآني ضابط شاب يكبرني بعشر سنوات, وأعجب بي علي الفور ورغب في الزواج مني, ورحب به أبي الذي يعمل معه.. وطرت أنا به فرحا.. وأصبح منذ اللحظة التي رأيته فيها فارس أحلامي.. وتزوجنا وأنا في السابعة عشرة من عمري علي غير إرادة أهله الذين لم يروني كفئا له, وكانوا يريدون له الزواج من طبيبة من أقاربهم, لكن شيئا لم يحل دون سعادتنا فتزوجنا وأنجبنا طفلة جميلة, وساعدني زوجي علي إكمال تعليمي حتي وصلت إلي السنة الثالثة الثانوية, ثم مرض فجأة وهو الشاب الفني وتدهورت صحته سريعا.. وصدمت صدمة هائلة حين عرفت أنه مصاب بالفشل الكلوي, وقضي زوجي عاما كاملا في مستشفي المعادي رافقته خلاله وقضيت الليالي كلها فيه نائمة تحت فراشه لأتخفي من عيون الممرضات في الليل, لأن نظام المستشفي يمنع وجود المرافقين لعدم وجود أماكن كافية, ولأن زوجي لم يكن يريدني أن أفترق عنه.. وتطلبت حالة زوجي زرع كلية له.. وتحمس الأخوة وهم ثمانية أشقاء في البداية للتبرع له بكلية أحدهم, لكنهم لم يلبثوا أن تعللوا واحدا بعد الآخر بعلل وأعذار مختلفة للاعتذار عن ذلك, وصارحت أنا الطبيب برغبتي في التبرع لزوجي بكليتي, لكنه رفض طلبي لأن فصيلة دمي لاتوافقه, وقد يلفظ جسمه كليتي علي الفور, لكني تمسكت بالأمل الضعيف وبدأت إجراء التحاليل العديدة ولاحظ زوجي غيابي عنه لإجراء التحاليل وشعر بما يجري حوله وتألم له وكتم مشاعره, وفي أحد أيام شهر رمضان كنت معه في غرفته بالمستشفي.. وتسلل آذان المغرب إلي أسماعنا جميلا رقيقا, فوجدت زوجي ينظر إلي في حزن ثم يدعو الله لي بالسعادة وبأن يرزقني ربي من بعده بإنسان يحفظني ويرعاني ويعوضني عن معاناتي, فبكيت واكتأبت ونهيته عن مثل هذا الكلام, مؤكدة له أنه سيعيش مائة عام, ثم نهضت لأؤدي صلاة المغرب فلاحظت أنه قد صمت وأن شيئا يسيل من فمه, فخرجت من الصلاة وهرولت إليه وناديته فلم يجبني, ومسحت علي رأسه بماء الكولونيا فلم يستجب, فناديت الطبيب الذي جاء مسرعا وأمر الممرضة بإخراجي إلي الشرفة, وشاهدته من موقفي يدلك له صدره بيده في البداية ثم يجري له صدمه كهربائية بجهاز الصدمات ويكف في النهاية يائسا.. وأنا لا أصدق أن زوجي الحبيب قد رحل عني, واستدعاني الطبيب المعالج إلي مكتبه وقال لي إنه سيصارحني بسر لابد أن أعرفه وهو أن زوجي لم يمت بعلته لأن مريض الفشل الكلوي يستطيع أن يعيش علي الغسيل سنوات طويلة, وإنما مات بصدمة عصبية تأثرا بموقف أسرته منه.. ولم أتكلم ولم أذرف دمعة واحدة لمدة ثلاثة أيام, ثم انهرت دفعة واحدة وسقطت في الفراش..
وخلال فترة العزاء أخذ أخوة زوجي مفتاح شقة الزوجية بحجة حاجتهم إلي أوراق تخص العمل فيها, وأخذوا كل شيء من الذهب إلي الملابس إلي الأثاث إلي كل شيء, وأعادوا الشقة المؤجرة إلي المالك, ورجعت أنا إلي بيت أبي أرملة حزينة في العشرين وبضعة أشهر من عمرها, ومعي طفلة لم تبلغ الثالثة من العمر, واشتري لي أبي من مرتبه البسيط ملابس لي ولطفلتي وطلب مني أن أحتسب ما جري لي عند الله وأردد دائما: عوضي علي الله وحسبي الله ونعم الوكيل, وساومتني أسرة زوجي لكي أتزوج أحد أشقائه فرفضت بإصرار ورجعت لمواصلة تعليمي تنفيذا لوصية زوجي حتي حصلت علي بكالوريوس التجارة, واهتممت بتعليم ابنتي الوحيدة وتوفير الحياة الكريمة لها, ورعايتها بما أتقاضاه من معاش وبعائد عملي صباحا ومساء, ورحل أبي عنا وتركني في رعاية الله ورعاية أخوتي, يرحمه الله رحمة واسعة, ومضت الأيام فتزوج ما لم يكن قد تزوج من الأخوة وانتقل إلي حياته الجديدة, ووصلت ابنتي إلي الثانوية العامة.. واحتاجت إلي نفقات كبيرة للدروس الخصوصية, فلجأت إلي العمل في منطقة نائية لأحصل علي امتيازات مادية أكبر لمدة خمس سنوات, وحصلت ابنتي علي الثانوية والتحقت بكليتها الجامعية وواصلت نجاحها في الدراسة حتي حصلت علي البكالوريوس.. وحين رجعت إلي مبتهجة لتحتضنني وتبشرني بنجاحها, وجدت نفسي انفجر باكية بحرقة.. وأتذكر زوجي الراحل ووالدي الحبيب وأستعيد صورتي وأنا راجعة إلي بيت أبي في ثياب الحداد وعلي ذراعي هذه الطفلة نفسها ولا أعرف ماذا ستصنع بي الأيام ولا ماذا سيحمله لي المستقبل..
وصليت لله العلي القدير شكرا وعرفانا أن أعانني علي أداء بعض رسالتي مع ابنتي هذه, وعلي الصمود للأحزان والمنازعات القضائية الطويلة مع أخوة زوجي بعد الوفاة, ثم تنبهت فجأة إلي حقيقة مهمة شغلت عنها طوال السنين الماضية وهي أنني أرملة منذ21 عاما وبعد زواج قصير لم يطل أكثر من ثلاث سنوات, وعمري42 عاما وبداخلي أشواق حبيسة إلي الحياة العائلية والأمان والاستقرار لم تكن تعبر عن نفسها لانشغالي برعاية ابنتي والبلوغ بها شاطئ الأمان, ووجدتني أتساءل: هل في العمر بقية لإرواء هذه الأشواق الحبيسة إلي الحياة العائلية..
وماذا سيكون عليه حالي حين تتزوج ابنتي الحبيبة هذه وتنتقل إلي بيت زوجها وتطول بي ساعات الوحدة والفراغ؟
لقد بذلت كل مافي وسعي لتربيتها وإسعادها.. وإسعاد كل من حولي في حدود قدراتي, فهل يكون من حقي أن أتطلع بعد هذه الرحلة من العناء إلي أن تسعدني السماء.. وتعوضني عن الأحزان والمرارات؟
منقوله